الأدب النبوي (ص)
الادب النبوي
ألمح القرآن الكريم الى ان النبي (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الالماح ينسحب ليس على النص القرآني بل على السنة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بانه افصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه الى البعد الادراكي في مختلف انماطه الجمالية… وفي تصورنا ان النبي (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنه (افصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة ان المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدماً بأن النبي (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنه أفصح العربى...
واذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (ادبية) النصوص الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله) مما تعني ان فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي الهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) واذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فان المعصوم (عليه السلام) يظل على صلة وثقى بها من جانب، كما يظل بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.
من هنا نجد أن المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو ايقاعية، علماً ان العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله احكام العبارة وانتخابها واخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف والاختزال وادوات الوصل والاعتراض والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفن أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والايقاعية، وحتى «العنصر الايقاعي» فان انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النص ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً «ايقاعياً» له أهميته دون أن ينحصر الايقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية او سجع او وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية او استعارية او تشبيهية منها، بل أن رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الاشارة الى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي ان تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...
وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم الى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعد مادة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً الى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف الى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الامام علي (عليه السلام) بخاصة، واهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.
المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فنقول:
يمكن الذهاب الى أن (الأحاديث) المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) تحتل المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها الى رؤساء الدول والامارات، وولاته وسواهم، ثم الخطب والوصايا. والسر في ذلك، أن (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادىء الاسلامية الى الآخرين، وأما الخطب - فبالرغم من أنها تتضمن كثيراً من مادة (حديثية) أيضاً، الا ان اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها اقل حجماً من الاحاديث دون أدنى شك، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الاسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه الى الولاة الذين يتحدد عددهم دون ادنى شك والأمر نفسه بالنسبة الى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود واما الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث ان الشعر (في حد ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو امر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً الى أن القرآن الكريم نزه النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: «وما ينبغي له»، بل أن النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار الى قضية الشعر وبغضه لهذا الفن الى درجة انه قرنه ببغض الاوثان ايضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): «لما نشأت بغضت الي الأوثان وبغض الي الشعر».
(1)أما ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من «الرجز» في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أن مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضاد ذلك مثل (لأن يمتلىء جوف احدكم قيحاً، خير من أن يمتلىء شعراً)،
(2) حيث يمكن أن يستخلص مورخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الاحاديث بأن الشعر بعامة موسوم بالكراهة الا في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الشعر يحتل أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فان استخدامه وسيلة اعلامية: يظل أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء ان يهجوا المشركين مثلاً، واما عدا ذلك فيظل الشعر كما صرح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - امراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والامامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب الى ان ذم الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنه لو كان كذلك لكان النبي (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما انه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها ادوات لتوصيل رسالة الاسلام، كان بمقدوره ان يستخدم الشعر ايضاً... لكن بما انه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للاسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف الى ذلك: أن ما ورد من النهي عن انشاد الشعر في المسجد او الاوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأن الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.
*******